فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِذا جاءك المنافقون} أي: إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك، وجواب الشرط: {قالوا}، وقيل: محذوف، و{قالوا}: حال، والتقدير: جاءوك قائلين كيت وكيت، فلا تقبل منهم، وقيل: الجواب {اتخذوا أيمانهم جُنّة} وهو بعيد {قالواْ نشْهدُ إِنّك لرسُولُ الله} أكدوا شهادتهم بإنّ واللام، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم، والمراد بالمنافقين: عبد الله بن أبيّ وأصحابه، ومعنى {نشهد}: نحلف، فهو يجري مجرى القسم، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم، ومن هذا قول قيس بن ذريح:
وأشهد عند الله أني أحبها ** فهذا لها عندي فما عندها ليا

ومثل نشهد نعلم، فإنه يجري مجرى القسم، كما في قول الشاعر:
ولقد علمت لتأتينّ منيتي ** إن المنايا لا تطيش سهامها

وجملة: {والله يعْلمُ إِنّك لرسُولُهُ} معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها، وهو ما أظهروه من الشهادة، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك {والله يشْهدُ إِنّ المنافقين لكاذبون} أي: في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد؛ لا إلى منطوق كلامهم، وهو الشهادة بالرسالة، فإنه حقّ، والمعنى: والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدالّ على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب، وموافقة باطن لظاهر.
{اتخذوا أيمانهم جُنّة} أي: جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم، وإن محمدا لرسول الله وقاية تقيهم منكم، وسترة يستترون بها من القتل والأسر، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه، وقد تقدّم قول من قال: إنها جواب الشرط.
قرأ الجمهور: {أيمانهم} بفتح الهمزة، وقرأ الحسن بكسرها، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة المجادلة، {فصدُّواْ عن سبِيلِ الله} أي: منعوا الناس عن الإيمان والجهاد، وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوّة.
هذا معنى الصدّ الذي بمعنى الصرف، ويجوز أن يكون من الصدود، أي: أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه {إِنّهُمْ ساء ما كانُواْ يعْملُون} من النفاق والصدّ، وفي ساء معنى التعجب، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره من الكذب، والصدّ، وقبح الأعمال، وهو مبتدأ، وخبره: {ذلِك بِأنّهُمْ} أي: بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقا {ثُمّ كفرُواْ} في الباطن، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين، وأظهروا الكفر للكافرين، وهذا صريح في كفر المنافقين، وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدّوا، والأوّل أولى، كما يفيده السياق.
{فطُبِع على قُلُوبِهِمْ} أي: ختم عليها بسبب كفرهم.
قرأ الجمهور: {فطبع} على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، ويدل على هذا قراءة الأعمش: {فطبع الله على قلوبهم}.
{فهُمْ لا يفْقهُون} ما فيه من صلاحهم ورشادهم، وهو الإيمان.
{وإِذا رأيْتهُمْ تُعْجِبُك أجسامهم} أي: هيئاتهم ومناظرهم، يعني: أن لهم أجساما تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق {وإِن يقولواْ تسْمعْ لِقولهِمْ} فتحسب أن قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا، وكان يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته.
قال الكلبي: المراد عبد الله بن أبيّ، وجدّ بن قيس، ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكلّ من يصلح له، ويدلّ عليه قراءة من قرأ: {يسمع} على البناء للمفعول، وجملة: {كأنّهُمْ خُشُبٌ مُّسنّدةٌ} مستأنفة لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، شبّهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم، وهم كذلك لخلوّهم عن الفهم النافع، والعلم الذي ينتفع به صاحبه، قال الزجاج: وصفهم بتمام الصور، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب.
قرأ الجمهور: {خشب} بضمتين، وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وقنبل بإسكان الشين، وبها قرأ البراء بن عازب، واختارها أبو عبيد؛ لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن، واختار القراءة الأولى أبو حاتم.
وقرأ سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب بفتحتين، ومعنى {مُّسنّدةٌ}: أنها أسندت إلى غيرها، من قولهم: أسندت كذا إلى كذا، والتشديد للتكثير.
ثم عابهم الله سبحانه بالجبن، فقال: {يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ} أي: يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم، نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان: أحدهما: أنه عليهم، ويكون قوله: {هُمُ العدو} جملة مستأنفة؛ لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون، والوجه الثاني: أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله: {هُمُ العدو}، ويكون قوله: {عليْهِمْ} متعلقا ب {صيحة}، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر، وكان حقه أن يقال: هو العدوّ، والوجه الأوّل أولى.
قال مقاتل، والسديّ: أي إذا نادى منادٍ في العسكر، أو انفلتت دابة، أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب، ومن هذا قول الشاعر:
ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ** خيلا تكرّ عليهم ورجالا

وقيل: كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم، ويبيح دماءهم وأموالهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال: {فاحذرهم} أن يتمكنوا من فرصة منك، أو يطلعوا على شيء من أسرارك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار.
ثم دعا عليهم بقوله: {قاتلهم الله أنى يُؤْفكُون} أي: لعنهم الله، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب، كقولهم: قاتله الله من شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمهم وتوبيخهم، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته- عزّ وجلّ- أن يلعنهم ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك؛ ومعنى {أنى يُؤْفكُون}: كيف يصرفون عن الحق، ويميلون عنه إلى الكفر.
قال قتادة: معناه يعدلون عن الحق.
وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد.
{وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْاْ يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ الله} أي: إذا قال لهم القائل من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن، فتوبوا إلى الله ورسوله، وتعالوا يستغفر لكم رسول الله {لوّوْاْ رُءوسهُمْ} أي: حركوها استهزاء بذلك.
قال مقاتل: عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار.
قرأ الجمهور: {لوّوا} بالتشديد.
وقرأ نافع بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد {ورأيْتهُمْ يصُدُّون} أي: يعرضون عن قول من قال لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجملة: {وهُم مُّسْتكْبِرُون} في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى، وهي يصدّون؛ لأن الرؤية بصرية، ف {يصدّون} في محل نصب على الحال، والمعنى: ورأيتهم صادّين مستكبرين {سواء عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ أمْ لمْ تسْتغْفِرْ لهُمْ} أي: الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق، واستمرارهم على الكفر.
قرأ الجمهور: {أستغفرت} بهمزة مفتوحة من غير مدّ، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة {أم} عليها.
وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف {لن يغْفِر الله لهُمْ} أي: ما داموا على النفاق {إِنّ الله لا يهْدِى القوم الفاسقين} أي: الكاملين في الخروج عن الطاعة، والانهماك في معاصي الله، ويدخل فيهم المنافقون دخولا أوّليا.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال: {هُمُ الذين يقولون لا تُنفِقُواْ على منْ عِند رسُولِ الله حتى ينفضُّواْ} أي: حتى يتفرّقوا عنه، يعنون بذلك فُقراء المهاجرين، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم، أو لعدم مغفرة الله لهم.
قرأ الجمهور: {ينفضوا} من الانفضاض، وهو التفرّق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي: {ينفضوا} من أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم، يقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضّ.
ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال: {ولِلّهِ خزائِنُ السموات والأرض} أي: إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين؛ لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء ما شاء {ولكن المنافقين لا يفْقهُون} ذلك، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عزّ وجلّ، وأنه الباسط القابض المعطي المانع.
ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال: {يقولون لئِن رّجعْنا إِلى المدينة ليُخْرِجنّ الأعز مِنْها الأذل} القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وعنى بالأعزّ: نفسه ومن معه، وبالأذلّ: رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ومراده بالرجوع: رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبيّ، لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون.
ثم ردّ الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال: {ولِلّهِ العزة ولِرسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِين} أي: القوّة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم.
اللّهم كما جعلت العزّة للمؤمنين على المنافقين، فاجعل العزّة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين {ولكن المنافقين لا يعْلمُون} بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم، والطبع على قلوبهم.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس شدّة، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: {لا تُنفِقُواْ على منْ عِند رسُولِ الله حتى ينفضُّواْ} من حوله، وقال: {لئِن رّجعْنا إِلى المدينة ليُخْرِجنّ الأعز مِنْها الأذل} فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ، فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدّة حتى أنزل الله تصديقي في {إِذا جاءك المنافقون}، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، فلوّوا رءوسهم، وهو قوله: {كأنّهُمْ خُشُبٌ مُّسنّدةٌ} قال: كانوا رجالا أجمل شيء.
وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما سماهم الله منافقين، لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان.
وأخرج ابن المنذر عنه: {اتخذوا أيمانهم جُنّة} قال: حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنوا بأيمانهم من القتل والحرب.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا: {كأنّهُمْ خُشُبٌ مُّسنّدةٌ} قال: نخل قيام.
وأخرج ابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضا.
قال: نزلت هذه الآية: {هُمُ الذين يقولون لا تُنفِقُواْ على منْ عِند رسُولِ الله حتى ينفضُّواْ} في عسيف لعمر بن الخطاب.
وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم، وابن مسعود أنهما قرأ: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله}.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة.
قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال المهاجريّ يا للمهاجرين، وقال الأنصاريّ يا للأنصار، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوة الجاهلية»؟ قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «دعوها، فإنها منتنة»، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ، فقال: أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منه الأذلّ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»، زاد الترمذي فقال له ابنه عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله العزيز، ففعل. اهـ.